يبدو أن (ال) التعريف قد فقدت معناها في العلاقات المصرية الفلسطينية، فلم نعد نعرف على وجه الدقة مَن هو "الــــــ" عدو، ومَن "الـــــ" صديق، وضاع "تعريف" النصر والهزيمة، والنكسة والنكبة، والدولة والنظام والحكومة، والأمن والاستخبارات. كنت أظن أن المعنى اللغوي للنكبة لا ينطبق اصطلاحاً إلا على مايو/أيار من سنة 1948، إلا أن مآلات الأحداث عمليًّا قد صنعت نكبات لاحقة لا تقل أهميتها في مسار القضية الفلسطينية عن مركزية النكبة الأم. أما النكبات اللاحقة فقد اختص بآثارها المباشرة اللاجئون الفلسطينيون في وادي النيل وفي سيناء، وعمّت بلاءاتها القضية الفلسطينية كلها.
نزح المنكوبون الأوائل من يافا واللد والرملة وعسقلان، براً وبحراً إلى الجنوب، حيث خضع قطاع غزة للإدارة المصرية حتى عام 1967، ولم يكن من فاصل يحول دون الوصول إلى سيناء، ومنها إلى وادي النيل بعبور قناة السويس. حطت قوافل المطرودين أحمالها البسيطة من فوق ظهور الدواب، وألقى اللاجئون أجسادهم المنهكة تحت ظلال الأثل والزيتون، فتوزّع مستقر الزاحفين برًّا من بيت حانون في شمال القطاع إلى العريش، قبل أن يقرر بعضهم استئناف المسير إلى وادي النيل. أما القوارب الصغيرة التي حملت عائلات أصحابها من يافا وعسقلان، فقد رسى القليل منها على شاطيء العريش الشرقي، وأبحرت القوارب الأقوى قليلاً إلى ميناء بورسعيد، الذي كان أقرب ميناء مجهّز على ساحل البحر المتوسط، على مسافة 250 كيلومتر تقريباً من حدود مصر مع غزة.
لم يعرف وسط سيناء حدودًا حقيقيّة تفصله عن النقب الفلسطيني وبئر سبع، بل عاشت القبائل البدوية في الجهتين يربطها الدم ويحركها الرعي والتجارة، ولم تتشبث بعض عشائر تلك القبائل بمواضعها إلا لوجود مياه متدفقة، مثل عين القديرات، أو مصالح تجارية تاريخية، مثل طريق الحج الواقع في مضارب قبيلة التياها بوسط سيناء. ولم يعرف أبناء الترابين والعزازمة واللحيوات سوى الانتماء القَبَلي مُقدّماً على الانتماء لأقطار تفصلها حدود متنازع على رسمها سياسيًّا منذ حروب الفراعنة والهكسوس.
وفي ظلال التاريخ الحديث، أطلت حروب السواركة ضد الترابين وحلفائهم من العائلات الإقلاعية في القرن التاسع عشر برأسها على تفضيلات اللاجئين الفلسطينيين في الإقامة بعد النزوح. فالمماليك من أصول آسيوية وأوروبية متنوعة، الذين فرّوا من وادي النيل بعد تدبير محمد علي باشا المذبحة الغادرة الشهيرة لأمرائهم في القلعة، كانوا قد تحالفوا مع الترابين ضد السواركة. وقيل إنهم اكتسبوا اسم "الإقلاعية" بسبب نجاتهم من مذبحة القلعة أو بسبب تحصنهم بإحدى قلاع خان يونس القديمة خلال تلك الحروب. لذلك ولأسباب أخرى، خلت أراضي السواركة – تقريباً – من اللاجئين الفلسطينيين من الحضر، الذين آثروا حياة المدن والعمل في التجارة على حياة البداوة والزراعة.
حلّ بعضهم في غزة، من بيت حانون وبيت لاهيا في الشمال إلى رفح في الجنوب، ولم يكن بين رفح الفلسطينية وشقيقتها المصرية أي فاصل. وتابع الآخرون المسير 40 كيلومتر أخرى مجتازين أرض السواركة، تلك الممتدة من الشيخ زويد غربيّ رفح وحتى شرق العريش ومحيطها الجنوبي. فكان ملاذ من اختار العريش هو وسط المدينة، ولم يكن متاحاً لهم التمدد غرباً حيث أراضي عائلاتٍ وقبائل أخرى، منها السواركة أيضاً. لم تكن العريش في ذلك الوقت مُرضيةً لمن ترك مدينة زاهرة مثل يافا، أو لمن يطمح في تقليل مصابه بالبحث عن فرص أفضل للعمل والحياة. لذلك، تابع بعض اللاجئين هجرتهم القسرية إلى وادي النيل، حيث تفرقوا بين ريف محافظة الشرقية وحضر القاهرة والإسكندرية.
لحق بالمنكوبين الأوائل دفعة ثانية من اللاجئين دخلوا سيناء مع العدوان الثلاثي (الإسرائيلي – البريطاني – الفرنسي) على مصر عام 1956. وعلى الرغم من كونه اعتداءً محدود المدة، إلا أنه قد أثمر بناء علاقة قوية بين الجيش المصري ومخابراته الحربية من ناحية، وبين الفلسطينيين وما أسمّيهم أتباع "الصوفية الجهادية" من بدو سيناء من ناحية أخرى. نشط فلسطينيون كثر في التعاون الاستخباراتي والعملياتي مع الجيش المصري، ونشأت من هنا علاقة قوية تم استثمارها وتوطيدها منذ احتلال سيناء 1967 وحتى ما بعد كمال تحريرها 1982. أما الصوفية الجهادية فقد وردت إلى سيناء من غزة على يد الشيخ أبي أحمد الغزاوي عام 1953، حيث تلقاها تلميذه الشيخ عيد أبو جرير، شيخ عشيرة الجرارات من قبيلة السواركة، وأنشأ لها الزوايا في أنحاء شمال سيناء كلها بدءاً من بلدته "الجورة" جنوب الشيخ زويد.
كانت الطريقة العلوية الدارقوية الشاذلية أول اجتماع ديني في سيناء في الخمسينيات من القرن العشرين، ولم تشهد سيناء قبله سوى معسكرات كتائب الإخوان المسلمين في العريش وسد الروافعة، التي شاركت في حرب 1948، قبل أن يتم الغدر بها من قبل القصر الملكي بتوقيع الهدنة والزج بهم في المعتقلات، ومن ثمّ وقوع النكبة. تزامن اختفاء الإخوان من سيناء بسبب توتر العلاقات السياسية بينهم وبين الحكم الناصري مع انتشار الصوفية وازدهارها. وخلال فترة الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، انخرط من أتباع الصوفية الجهادية عشرات من الفدائيين ومئات من الاستطلاعيين يتجسسون على الجيش الإسرائيلي داخل سيناء وداخل الأراضي الفلسطينية المحتلة سواءً بسواء.
لم تكن هزيمة 1967، رغم قساوتها، ”نكبة ثانية“ بالنسبة لفلسطينيي سيناء، فانفتاح الحدود من مشارف الشام وحتى قناة السويس قد مكّن الفلسطينيين والمصريين، على السواء، من التنقل وزيارة القدس وصلة الأرحام والعمل، دون إقامة. صحيح أن الدفعة الأكبر من المنكوبين اللاجئين إلى سيناء كانت في 1967، إلا أنها كانت امتداداً للنكبة الأم، أو النكبة الأولى. ومن المفارقات أن يأتي احتلال سيناء بفرصة لبعض اللاجئين الفلسطينيين الذين تمكنوا من زيارة بيوتهم المغتصبة، لينقلوا لأبنائهم وأحفادهم - فيما بعد - ما دار بينهم وبين المستوطنين الصهاينة من حوارات مقتضبة خلال تلك الزيارات. أما النكبات الحقيقية التالية فقد كانت بعد ذلك بعدة سنوات...
النكبة الثانية: القدس – كامب ديفيد – واشنطن (1977 – 1979)
كان القرار المنفرد الذي اتخذه الرئيس السادات بزيارة الكنيست الإسرائيلي في 1977 إيذاناً بنكبة ثانية للقضية الفلسطينية. لم تخل إرهاصات هذه النكبة من ”حماقات فلسطينية“، تمثلت باغتيال يوسف السباعي، رئيس تحرير جريدة الأهرام وأمين مؤتمر التضامن الأفروآسيوي المخصص لمناقشة القضية الفلسطينية، ثم إتباع عملية الاغتيال باختطاف رهائن في مطار لارنكا بقبرص في شتاء 1978. صحيحٌ أن فرقة القوات الخاصة المصرية قد تفوّقت على مجموعة أبونضال، المنشقة عن حركة التحرير الفلسطينية، في الحماقة والرعونة فتسببت في تدمير العلاقات المصرية القبرصية، وسجّلت واحدة من أفشل المهمات الخاصة في التاريخ المعاصر، إلا أن جنازة السباعي، التي أقيمت قبل تطورات محاولات تحرير الرهائن، كانت قد شهدت أعنف الهتافات العدائية ضد القضية الفلسطينية في قلب القاهرة.
لم يُرضِ غرور السادات ونرجسيّــته ما ابتكره من عقوبات دبلوماسية ليس لها معنىً في القانون الدولي ضد قبرص، بل اتجه داخلياً لمعاقبة اللاجئين الفلسطينيين قبل توجهه إلى كامب ديفيد لعقد اتفاقية التفاهم على إطارٍ لعملية السلام مع إسرائيل في خريف 1978. كانت العقوباتُ تشريعاتٍ تجرّدهم من حقوق المساواة بالمواطنين المصريين التي نص عليها بروتوكول وقرار من مجلس جامعة الدول العربية وأكدها جمال عبد الناصر منذ 1954.
تم تجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية، وبالتالي لم يعد ملزماً لها القرار رقم 462 الصادر سنة 1952 لضمان حق الفلسطينيين في العمل والاستخدام في الأقطار العربية أسوة بمواطني هذه الأقطار. ألغى السادات بالقرارين 47 و48، الصادرين في صيف 1978، ما سنّه المشرع المصري في فترة الحكم الناصري لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في وظائف الدولة والمؤسسات العامة (قانون 66 لسنة 1962)، وكذلك إعفاءهم من الحصول على ترخيص العمل (قرار وزير العمل في مايو/أيار 1963). صار محرماً على الفلسطيني في مصر أن يعمل بالتجارة أو الاستيراد والتصدير إلا إذا كان متزوجاً مصرية قبل 1973، وطبعت مصلحة الجوازات والهجرة عبارة "لا يجوز له العمل بأجر وبلا أجر" على الإقامات ووثائق السفر الفلسطينية. وحرم أبناء الفلسطينيين في العام ذاته من التعليم الحكومي المجاني وفرض عليهم التعليم الخاص، إلا باستثناء لا يتجاوز 10% من سعة المدارس الحكومية.
وَقَعت الطامّة في ربيع 1979، وتم توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية برعاية أمريكية في واشنطن العاصمة. ولا أبالغ إن قلت إنها كانت القطيعة المصرية مع العهد العروبي وتأسيساً لنظام حكم جديد يدور في فلك العلاقة الاعتمادية الاستراتيجية على الولايات المتحدة الأمريكية، تلك التي لا تقبل المساس بمعاهدة السلام مع حليفتها الصهيونية. أول وزير سابق ألمح علناً لاعتبار 1979 بداية نظام جديد كان المشير محمد عبد الغني الجمسي، وزير الدفاع الأسبق ورئيس هيئة عمليات القوات المسلحة أثناء حرب أكتوبر/تشرين أول 1973. في مقدمة مذكراته، كتب عن الحوار الذي دار بينه وبين السادات وكان إشارة للنية في الاستغناء عنه، فقد أخبره السادات أن المرحلة الجديدة تتطلب تغييرات واسعة تطاول مؤسسات الدولة كافة. بدأ السادات بعدها في تهميشه، وقام بتغيير رئيس البرلمان، فاختار الجمسي الحفاظ على كرامته العسكرية وقدم استقالته.
اغتيل السادات بعد سنتين في 1981، وورث حسني مبارك نظام 1979 الذي أسسه سلفه، فأمعن في التضييق على الفلسطينيين بحرمان طلابهم من "كليات القمة"؛ مثل الكليات الطبية والهندسة والاقتصاد والعلوم السياسية والإعلام، حتى لو استحقوها بدرجاتهم في الثانوية العامة. ظل مكتب التنسيق يوزع المتفوقين وغيرهم على الكليات التي تتيحها الدولة لهم، حتى أُلغي القرار بقرارٍ جديد يسمح للفلسطينيين بدخول كافة الكليات، لكن يقضي بمعاملتهم معاملة الأجانب. فصار الطالب الفلسطيني المولود في مصر، لأبوين مولودين في مصر، والذي سحبت منه ومن أسرته امتيازات المساواة بينه وبين المواطنين، مطالباً بتسديد ما يتراوح بين 1000 و3000 جنيه استرليني، أو ما يعادلها بالدولار الأمريكي، وذلك كرسوم تسجيل، ومثلها كمصروفات دراسية عن كل عام دراسي.
في عهد مبارك، توالت القرارات التي ضيقت على اللاجئين الفلسطينيين سبل الإقامة والمعيشة، وعُضدت القرارات الرسمية بالصلاحيات الأمنية الواسعة والتعسفية لجهاز مباحث أمن الدولة الذي اشتدت وطأته على سكان شمال سيناء من مصريين وفلسطينيين أكثر مما اشتدت في وادي النيل. ففي عام 1985 صدر قانون يحرم الفلسطينيين حق امتلاك الأراضي الزراعية، وقد نص القانون على التطبيق بأثر رجعي، بل إنه منع الفلسطيني المتزوج بمصرية من أن يبيع أرضه لزوجته وأجبره على بيعها لمصري آخر، إلا أن الحكومة عادت وعدلت عن هذا القانون في وقت لاحق. وفي منتصف العقد الأول من الألفية، تم وقف الدعم التمويني للاجئين الفلسطينيين، وذلك بعد أن تم التدرج في التسمية الرسمية لهم في وثائقهم الثبوتية ومستنداتهم، مثل رخصة القيادة، من "فلسطيني" إلى "عربي" ثم إلى "أجنبي". وتكررت الشكاوى من التمييز القاسي الذي يطاول المتفوقين من أبناء الفلسطينيين في المدارس، حيث يحرمون من التكريم أو المشاركة في مسابقات أوائل الطلبة، ويتم تجاوزهم لمن يليهم من طلاب مصريين، وهو تمييز قائم حتى كتابة هذه السطور.
بلغ التضييق الذي عاشه الفلسطينيون في شمال سيناء في أواخر عهد مبارك درجة تهديدهم من قبل المقربين من الأجهزة الأمنية من المواطنين العاديين بترحيلهم إذا نشب عراك عادي. وفي مجتمع ذكوري بامتياز، حمل تهديد امرأة عرايشية لرجل فلسطيني بالترحيل في مشادة كلامية عادية مزيجاً من الإهانة البالغة، والتعبير عن الدرك الذي تدنت إليه أحوالهم، حتى صار أمر ترحيلهم هيّنًا درجة التهديد به في مشادة بين جارين. تضافرت هذه العوامل كلها حتى عزف كثير من المصريين عن الزواج من فلسطينيات أو مصاهرة الفلسطينيين خشية التضييقات البيروقراطية والأمنية التي قد تفرق بين أعضاء الأسرة الواحدة وتمنع سفرهم سوياً، ما أدى إلى تأخر سن الزواج لدى الجنسين وفاقم كثيرا من المشكلات.
لم تكن نكبة 1979، أو نكبة كامب ديفيد، هي "الـــــ" نكبة الأخيرة، فالنكبات قد تكررت. وحين نتحدث عن فلسطينيّي سيناء تحديداً فإن النكبتين اللاحقتين كانتا نتاجاً للعلاقة بين القاهرة ورام الله وغزة، داخل إطار 1979. في المقال اللاحق، أتناول قضايا أنفاق التهريب في سياق النكبة الثالثة، حيث تم اختزال فلسطين في غزة. وأختم بالنكبة الرابعة الحالية، وهي نكبة يوليو 2013.